في صمتٍ حذر يسبق العاصفة، يقف الاقتصاد العالمي على حافة ترقّب لزلزال جديد لا يعرف أحد من أين ستبدأ أولى رجّاته.فالمؤشرات تتراقص على شاشات الأسواق كإنذارات مبكرة قبل الانفجار المحتمل، وسط تضخم الديون العالمية، وتوترات جيوسياسية متزايدة، وتقلبات حادة في أسعار العملات والطاقة والمعادن.
في الوقت الذي يحاول فيه الاقتصاد العالمي استعادة توازنه بعد سنوات من الصدمات (الجائحة، والتضخم، وحرب الفائدة)، تتشكل ثلاث بؤر زلزالية رئيسية تُنذر بضربة كبرى، كل واحدة منها تحمل قوة تدميرية هائلة للنظام المالي العالمي: الديون السيادية المتضخمة، وتقلبات أسواق الطاقة والنفط، وفقاعة الأصول الرقمية الصامتة.
اليابان وسندات الخزانة الأمريكية… مركز الثقل المعرّض للخطر
تتجه الأنظار أولاً إلى جبهتين ماليتين تشكلان ركيزة النظام الاقتصادي العالمي، وهما الأكثر عرضة للاهتزاز في المرحلة المقبلة: اليابان والولايات المتحدة.
التهديد الياباني: الين بين الانهيار والتدخل
يبدو الاقتصاد الياباني مثقلاً بديون حكومية تجاوزت 250% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما يواصل الين الياباني تراجعه الحاد ليقترب من أدنى مستوياته منذ أكثر من 30 عاماً عند 150-151 يناً للدولار. هذا الهبوط المستمر يضع السلطات اليابانية أمام معضلة صعبة: إما التدخل لحماية العملة، وإما تركها تواصل الانخفاض، وهو ما قد يفاقم التضخم ويقوض ثقة المستثمرين.
ولا يقتصر الخطر على العملة؛ فبنك اليابان، أكبر حائز أجنبي لسندات الخزانة الأمريكية بأكثر من تريليون دولار، يواجه ضغوطاً متزايدة لتغيير سياسته النقدية المتساهلة. أي تحول مفاجئ في سياسة مراقبة منحنى العائد قد يدفع البنوك وصناديق التقاعد اليابانية إلى إعادة تريليونات الين إلى الداخل، ما قد يتسبب في موجة بيع ضخمة تهز أسواق السندات العالمية من طوكيو إلى وول ستريت.
أزمة الثقة في الديون الأمريكية
على الجانب الآخر من المحيط الهادئ، تتصاعد المخاوف بشأن الدين الأميركي الذي تجاوز 36 تريليون دولار، وسط توقعات بتخطيه 40 تريليوناً بنهاية عام 2025. هذه الأرقام القياسية دفعت عوائد سندات الخزانة إلى مستويات غير مسبوقة منذ عقدين -حيث تجاوز عائد السندات لأجل عشر سنوات 4.5%، واقترب عائد الثلاثين عاماً من 5%- ما زاد من كلفة الاقتراض وأثار مخاوف حول استدامة تمويل العجز الفيدرالي.
ومن شأن استمرار هذا المسار أن يؤدي إلى ما يُعرف بـ«البيع العظيم»، وهو سيناريو تتجه فيه دول كبرى مثل الصين واليابان إلى تصفية جزء من حيازاتها من السندات الأميركية لتفادي الخسائر، ما قد يضرب الثقة في الديون الأميركية ويؤدي إلى اهتزاز واسع في النظام المالي العالمي.
النفط… هل يكون الوقود المحتمل للزلزال الجديد؟
في خضم تلك التحديات، يبقى سوق النفط عاملاً حاسماً قد يشعل فتيل الزلزال القادم، سواء عبر ارتفاع الأسعار المفاجئ أو انهيارها الحاد. تعيش أسعار النفط في حالة توتر دائم، حيث يتأرجح خام برنت بين 60 و70 دولاراً للبرميل، مدفوعاً بعوامل متناقضة. فمن جهة، تدفع التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط والمخاوف من اضطراب الإمدادات إلى موجات ارتفاع حادة، خاصة مع زيادة محدودة في الإنتاج من تحالف «أوبك+» تتماشى مع حالة اللايقين.
ومن جهة أخرى، يهدد تباطؤ الطلب العالمي من الصين وأوروبا بإعادة الأسعار إلى مستويات أدنى ما قد يعصف بإيرادات الدول المنتجة ويؤجج المخاوف من ركود في أسواق الطاقة. إذا قفزت الأسعار مجدداً فوق 100 دولار، فقد يشعل ذلك موجة تضخمية جديدة تجبر البنوك المركزية على تأجيل خفض أسعار الفائدة، ما سيضغط على الأسواق المالية ويبطئ التعافي الاقتصادي.
أما إذا انهارت الأسعار دون في نطاق 50- 55 دولاراً نتيجة ركود عالمي، فستتعرض اقتصادات الدول المصدّرة لهزات مالية عميقة. وفي كلا السيناريوهين، يبقى النفط عنصر المفاجأة القادر على قلب الموازين في لحظة.
صراع الدولار واليورو:
يواصل الدولار الأميركي أداءه القوي بدعم من السياسة النقدية الصارمة للاحتياطي الفيدرالي ومرونة الاقتصاد الأميركي، فيما يتحدث محللون عن «صحوة الدولار» التي قد تُعيد رسم خريطة العملات العالمية. لكن هذه القوة نفسها تضغط على الاقتصادات الناشئة المثقلة بالديون المقومة بالدولار، وتضعف عملات كبرى مثل اليورو الذي يترنح تحت وطأة التباطؤ الاقتصادي في منطقة اليورو وتردد البنك المركزي الأوروبي في التحرك نحو خفض الفائدة.
الذهب والبيتكوين.. بين الملاذ والهاوية
قد لا يأتي الزلزال القادم من العملات أو النفط أو السندات، بل من أصول التحوط نفسها التي طالما كانت ملاذاً في الأزمات.
الذهب:
تجاوز سعر الأونصة 3977 دولاراً مدعوماً بمخاوف التضخم وتراجع الثقة في النظام المالي، لكن بعض المحللين يحذرون من تحول هذا الارتفاع إلى فقاعة قد تنفجر مع عودة الاستقرار.
البيتكوين:
قفزت العملة المشفرة فوق 126 ألف دولار وسط تدفق استثمارات ضخمة وصناديق ETF جديدة، ما جعلها أداة تحوط رقمية موازية للذهب. ومع ذلك، تبقى تقلباتها الحادة سلاحاً ذا حدين، إذ يمكن أن تتحول المكاسب إلى خسائر هائلة في ساعات.
2025.. عام اللا يقين العالمي
يؤكد صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد العالمي لا يزال يُظهر صموداً هشاً أمام موجات التضخم والتوترات الجيوسياسية.
ومع اقتراب نهاية عام 2025، تتكثف التحديات: استمرار التضخم فوق المستويات المستهدفة، وتباطؤ التجارة العالمية، واحتمال تجدد أزمات الطاقة، وازدياد الانقسام بين الاقتصادات المتقدمة والنامية. وفي ظل هذا المشهد المليء بالضبابية، يبقى السؤال الذي يحبس أنفاس المستثمرين حول العالم:
من أين سيأتي الزلزال القادم؟
هل سيكون من ديون الحكومات الكبرى؟ أم من أسواق الطاقة والنفط؟ أم من فقاعة الأصول الرقمية التي تكبر بصمت؟
الإجابة -كما يبدو- ليست سوى مسألة وقت.